مناقشة هادئة لوثيقة شيخ الأزهر

جاء في الديباجة الأولى لوثيقة شيخ الأزهر أنها خرجت للتالي:

(حماية للمبادئ الإسلامية التي استقرت في وعي الأمة وضمير العلماء والمفكرين من التعرض للإغفال والتشويه أو الغلوّ وسوء التفسير، وصوناً لها من استغلال مختلف التيارات المنحرفة التي قد ترفع شعارات دينية طائفية أو أيديولوجية تتنافى مع ثوابت أمتنا ومشتركاتها، وتحيد عن نهج الاعتدال والوسطية، وتُناقِض جوهر الإسلام في الحرية والعدل والمساواة، وتبعدُ عن سماحة الأديان السماوية كلها) .

وهذا يصدق عليه قول القائل : أول القصيدة إرهاب فكري وحجر على الرأي؛ فمن يتعرض لهذه الوثيقة بالنقد، فهو خارج عن نهج الوسطية والاعتدال على أقل تقدير ، ويمكن أيضا أن يصنف كتيار منحرف دينيا؛ ولم تنس الديباجة أن تحمل في طياتها اتهام المخالف بالطائفية والخيانة والخروج عن جوهر الإسلام. فهل يصح بتلك الصورة أن نبدأ نقاشا؟!

ثم ألا يحق للمخالف أن يقابل ذلك الأسلوب بمثله، فيقول أن تلك الوثيقة قد أعدها فضيلة شيخ الأزهر بالتوافق مع بعض القوى العلمانية وغير الإسلامية فنتجت بصورة حائدة عن المنهج الإسلامي السديد، خاصة وأن فضيلة الشيخ كان عضوا بلجنة سياسات الحزب الوطني الذي أفسد الحياة في مصر.وغير هذا مما يمكن أن يخاض فيه.

ولكننا سنتجاوز عن هذا رغبة في النقاش الجاد ، إن كان الطرف الآخر راغب فيه حقيقة.

ثانيا : جاء في الوثيقة لفظ : الدولة المدنية، والديمقراطية، وهي ألفاظ ليست من البيئة الإسلامية ولا العربية، فينبغي للأزهر أن يحدد مفهومه للدولة المدنية والديمقراطية، وأن يضع تعريف دقيق لهما من منظوره حتى نحدد على أي شيء نتوافق أو نعترض، فهل يقصد بالديمقراطية مجرد الآليات من انتخابات وأغلبية ونحو ذلك، أم يعنى بها كآليات وفلسفة؟

وبالمثل نريد أن نعرف تعريفًا محددًا وواضحًا للدولة المدنية [إذ هذا المصطلح من ألاعيب العلمانيين، ولم يرد في المصطلحات السياسية] وأعنى هنا تعريفًا بما ينطبق عليه معنى التعريفات، أي تعريف جامع مانع.

ثالثا : كان حريا بالشيخ الحرص على استخدام ألفاظ نابعة من الثقافة الإسلامية والتأكيد عليها، فكان عليه أن يستخدم لفظ الشورى بديلا عن لفظ الديمقراطية، وألا يستخدم لفظ الدولة المدنية كذلك فهي وإن افترضنا من باب التنزل في المناقشة أن مضامينها الفلسفية لا تخالف المنهج الإسلامي ، ولكنها ألفاظ وافدة نابعة من إنتاج معرفي وثقافي مغاير للثقافة الوطنية المصرية أو الإسلامية.

خاصة أن الشيخ ومعه كذلك فئة ضخمة من العلمانيين والليبرالين لا يكفون عن وسم التيار الإسلامي - الذي يسعى لإقامة سياسة شرعية على أسس إسلامية خالصة - بأنه تيار وهابي منتمٍ لأفكار وافدة من الخارج وغير مصرية. فكان جديرا بهم ألا يرتكبوا ما يعتبرونه مخالفة، وأن يظهروا لنا وطنيتهم الخالصة لنتعلم منهم كيف يكون التمسك بالثوابت الوطنية المصرية مع نبذ الوافد الغريب في الأمور كلها.

رابعا : جاء في الوثيقة ما يلي : (من هنا نعلنُ توافقنا نحن المجتمعين على المبادئ التالية لتحديد طبيعة المرجعية الإسلامية النيرة، التي تتمثل أساساً في عدد من القضايا الكلية، المستخلصة من النصوص الشرعية القطعية الثبوت والدلالة، بوصفها المعبرة عن الفهم الصحيح للدين ).

الذي نعرفه أن القضايا الكلية المستخلصة من جملة النصوص الشرعية واستقراء جزئيات الشريعة هي : تحقيق مقاصدها والتي جاءت لتحصيل مصالح العباد في الدنيا والآخرة .

"فتكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق. وهذه المقاصد (مصالح العباد) لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية. والثاني: أن تكون حاجية. والثالث: أن تكون تحسينية. ا.هـ" [ الموافقات بتعليق دراز 2/8 ]

"فأما الضرورية فمعناها: أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين".الموافقات

وهذه الضروريات هي : حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال.

... وأما الحاجيات فمعناها: أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوات المطلوب فإذا لم تراع دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة، لكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.

... وأما التحسينات فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنِّسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق". ا.هـ المصدر السابق 2/11

فإن كان يعني بالقضايا الكلية ماسبق فهذا يؤول بالتأكيد لإقامة الشريعة كاملة، وإن كان يعني به إقامة الضروريات وحسب، فهو في النهاية سيؤول إلى إقامة الشريعة كاملة أيضا ولكن بعد طريق شاق من الجدال والمناقشة.

مثال على ذلك : حفظ النفس ضرورة من الضروريات في حين أن القصاص أو التماثل في القصاص ليس من الضروريات، ولكنه تكميلي لتحقيق الضروري، وهكذا.

فإن كان هذا ما تعنيه الوثيقة حقا، فهي خادعة لمن يعارضون تطبيق الشريعة الإسلامية، وإن كانت الأخرى فهي خادعة للتيار الإسلامي، وكلاهما عمل لا ينبغي، بل هي في أفضل حالاتها تأجيل للمشكلة مع المشاركة فيها وهو أمر لا يليق بمقام من أخرجها.

وعلى كل فإن المبدأ الأول الذي اعتبرته وثيقة الشيخ من القضايا الكلية جاء كالتالي :

أولاً : (دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة . ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب؛ بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف فى الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية فى قضايا الأحوال الشخصي) .

ولنا هنا ملاحظات : الأولى النص يحتوي على قدر كبير من الغموض وبالتالي يحتمل الكثير من التأويلات، وهذا لا ينبغي أن يكون في نص قانوني دستوري. فالقول يكون لنواب الشعب فيه حق التشريع بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح، من يحدد هذا المفهوم هل هو صحيح أم لا؟ لما لا يكون بما لا يخرج عن نطاق الإجماع المعتبر.

وقوله : شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع.

إن كان المراد بالمبادئ هي الضروريات الخمسة من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، فهي فالنهاية لا بد وأن تأتي بإقامة الشريعة كاملة ، فحفظ الدين لن يكون إلا بإقامته وإقامة أحكامه. وإن كان هناك مفهموم آخر فليذكره لنا.

والقول : وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية فى قضايا الأحوال الشخصية .

لغو لا محل له فالشريعة تسمح بذلك بنصها ، فما الداعي لذكره إلا إن كان المراد شيء آخرغير ما هو معروف بمبادئ الشريعة. أو كان المراد هو إدخال الاستثناء على مسألة الاحتكام للشريعة لمجرد إدخال الاستثناء . حيث إن دخول الاستثناء على النص يضعفه. خاصة أن البنود الأخرى يتم التأكيد عليها بعبارات واضحة وقوية، بما يعطي انطباعًا بعلو بعض الأمور التي تم التأكيد عليها مثل ما جاء في البند الثالث : (الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسؤولية فى المجتمع) .

فهل لو جاء كاتب مثلا ووصف الله جل جلاله في مجلة : (بأنه عسكري مررو يزغط البط) يمكن أن يعتبر هذا حرية فكر وإبداع ولا ينبغي المساس به.وهذا مثال قد حدث بالفعل، وليس من وحي الخيال.

أو لو قال أحدهم أنه ينبغي إلغاء تعدد الزوجات بالنسبة للرجل لأن هذا تمييز أن يسمح للرجل بالتعدد ولا يسمح للمرأة، ومن ثم فتعدد الزوجات ضد المواطنة. وهذا أيضا كان يدندن عليه في السابق، بل أيضا يمكن اعتبار زواج غير المسلم من المسلمة من حقوق الموطنة وتدعيم لها، وهكذا قس عليه جزئيات كثيرة.

جاء في "خامسا" : تأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، والتمسك بالمنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية، المتوافقة مع التقاليد السمحة للثقافة الإسلامية والعربية.

ولا أدري ما السبب في العدول عن القول بالمتوافقة مع الشريعة الإسلامية أو مع أصول وقواعد الدين، لاستخدام مصطلح مطاط وهو التقاليد السمحة والثقافة الإسلامية. وهذا كما قلت أنه حين يأتي ذكر التشريع يتم استخدام عبارات حمالة أوجه غير محددة المعالم، وهو ما يؤكد الانطباع بأن الوثيقة تعلي من شأن المواثيق والقرارت والدولية وغيرها على شأن الشرع القويم.

الغريب أيضا أنهم قالوا إن المجتمعين حرصوا على أن يستلهموا في مناقشتهم روح تراث أعلام الفكر والنهضة والتقدم والإصلاح في الأزهر الشريف، في حين أن تراث الأزهر وأعلامه أكدوا بأوضح العبارات وأقومها وأقواها على ضرورة تطبيق شرائع الإسلام جملة وتفصيلا، وهذا ما لم نره في وثيقة الشيخ.

يرجى القراءه الكامله للموضوع

بارك الله فيك

» بيان مِن "الدعوة السلفية" حول الموقف مِن "وثيقة الأزهر"